سورة الأنعام - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95)}
بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات، ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات ويكذبونها وقالوا فيها الإفك أراد الله أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم، وكيف سخّر لهم كل الكون بما فيه.. جماداً ونباتاً وحيواناً، وكأنه سبحانه يوضح: إن كنت لا ترى أن الخالق يستحق عبادتك فانظر إلى ما انعم عليك به من النعم، ومادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق الأعلى فلماذا لا يسمع كلمته سبحانه؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك فانظر وتأمل واعرف.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} وساعة تسمع لفظ الجلالة: أي علم واجب الوجود وهو الله، فعليك أن تأخذ لفظ الجلالة بكل ما يدل عليه من صفات الجلال وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيُّوم عليه، وهذا الخلق وتلك القيّومية فعل يقتضي صفات متعددة تقتضي قدرة، وحكمة، وعلماً واسعاً ورحمة، وبسطاً وقبضاً وغير ذلك، وبدلاً من أن يأتي لك بصفات القدرة، وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه: (الله)؛ لأنه الاسم الجامع لكل صفاته. ونحن نقول في بدء كل عمل: بسم الله، وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه أي عمل، لأن أي عمل يحتاج إلى قدرة، فتقول: باسم القادر، ويحتاج إلى علم فتقول: (باسم العليم) ويحتاج إلى حكمة فتقول: (باسم الحكيم) ويحتاج عزة فتقول: (باسم العزيز) وقد تحتاج إلى قهر عدوك لأنك قد تدخل معه في حرب فتقول: (باسم القاهر) إذن كل عمل يحتاج إلى حشد من صفات الكمال والجلال يخدم الفعل، فبدلاً من أن يقول باسم القادر وباسم الحليم وباسم العليم وباسم القابض، يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول: بسم الله، لأن اسم الجلالة وهو (الله) هو الجامع لكل صفات الكمال.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى}، فالق أي شاقق، جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين. (الحب) ما لا نواة له مثيل الشعير والقمح والأرز. وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ، وتجد في قلب النواة شيئا آخر. وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ، وفي كل بذرة تجد فيها شيئا، فيوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن عظمتي تتجلّى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى، وهناك حبوب مفلوقة جاهزة، مثل حبة الفول مثلاً وحبة العدس.
وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجباً!!
فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير، وتضعها في الأرض في بيئة استخراجها، وبقليل من الرطوبة، تجد الفلقتين قد خرج منها نبتة وتكاد النواة أن تنفلق ليخرج منها الزبان الضعيف بين الفلقتين، وإن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة.
ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعاً صغيرة مفتتة بيضاء بجانب العش، واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش، فلو أن النمل أدخل الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة، وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش، فمن الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا؟ إنه الله. ونجد النمل يفلق حبة نبات (الكزبرة) إلى أربع قطع لأنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت، من الذي علمه؟ إنه سبحانه: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2-3].
والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك جذراً إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها، لكنها تخترق قلب الأرض الصلبة التي لو ضربتها بسكين لانكسرت السكين، لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والأرض، فأي قوة أعطته ذلك؟ أي قوة تخرق له الأرض؟ وهل الجذير هو الذي خرق الأرض أو خُرِقَت له؟ لقد خرق الحق الأرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع، إنّها قدرة الحق سبحانه {فَالِقُ الحب} الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتاً للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربى الجذور، ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الأرض ثم تتحور الفلقتان إلى ورقتين خضراوين.
ويتابع الحق سبحانه: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}. وحين تامل العلماء هذا القول وأرادوا أن يوضحوا لنا ما الحي؟ وما الميت؟
فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته، فحياة الإنسان فيها حركة وحس وجري، ثم هناك حياة ثانية في الحيوان، وحياة ثالثة في النبات، وحياة ذات طابع مختلف في الجماد. مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط ليجذب برادة الحديد، حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة. وكلنا رأينا في المدارس الأنبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس. وتعتدل وتصير في مستوى واحد، وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى الأحجار تختلف فيها أشكال الحياة، فهناك حجر يأخذ شكل الرخام، وآخر المرمر، وكل لون من الأحجار له شكل من أشكال الحياة.
ونقرأ في القرآن: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
وجاء الحق بمقابل الهلاك وهو الحياة؛ فالهلاك ضد الحياة والحياة ضد الهلاك، ويقول سبحانه في آية أخرى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
إذن ما دام كل شيء هالكاً، فكل شيء فيه حياة، والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس والحركة مع الإنسان، لا، إن الحياة في كل شيء بحسبه، إلى أن تقوم القيامة، فكل شيء حي له حياة تناسبه، وحين نسمع: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
نقول: نعم كل من يسبح بحمده يقول قولا، وإياك أن تقول إنّه تسبيح دلالة؛ لأن بعضهم يقول: إن هذا تسبيح دلالة على الخالق، ونقول: لو أن الذي يقصده الله تسبيح دلالة على خلق لما قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
إذن: فلا أحد منا يفهم لغة التسبيح، وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلام قول النملة وتبسم لها ضاحكاً، وكذلك ما سمعه من الهدهد، وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه السلام.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].
إن كل كلمة لها دلالتها ومعناها. فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود، وكلمة الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة. وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره، وهكذا إلى ما لا نهاية لكماله من صفات ذاته. وكلمة (الله) تدل على كل صفات الجلال والجمال والكمال، فإذا قال: (الله) فهذا الاسم: يشمل القادر، العالم، الحكيم، القدير، وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم، ما دامت ذاته سبحانه وتعالى متصفة بكل صفات الكمال، فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق القدرة والجمال والكمال.
إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق الله، وأن له حياة تناسب مهمته؛ فالإنسان له حياة تناسب مهمته. والحيوان له حياة تناسب مهمته. والنبات له حياة تناسب مهمته. والجماد له حياة تناسب مهمته. وإذا نظرت إلى الأشياء كلها بهذا المعنى وجدت أن كل موجود فيه حياة، ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في الأعلى من المخلوقات وهو الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الحياة حساً وحركة، ثم أعطاه حياة أخرى هي التي تُصعّد حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لأن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن والكافر، وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة، ولكن حياة الإيمان بما يبعثه الله لنا من منهج على يد الرسول. تعطينا حياة أوسع، وأخلد، وأرغد، وهذه هي الحياة الحقة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} هو المقدمة الأولى للحياة، ثم تكلم عن الحياة وأنه يخرج حياً من ميت، وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالأشياء؛ فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتاً لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في الوجود له حياة.
مصداق ذلك قوله جلت قدرته: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.
وما دام كل شيء هَالِكاً فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة.
والله سبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26-27].
ولماذا جاء في هذه الآية ب (تخرج) وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله: (ومخرج الميت من الحي)؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية في الآية، وهي: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} وقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} نسوا أنه سبحانه قال: إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن الله فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن الله فلق وشق الحب والنوى لأجل أن يخرج الحي من الميت.
ثم قال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} هو مقابل لفالق فلا تأخذها مقابلة للجزئية في الآية؛ ولأن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته، وصفة في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق، قبل أن يكون له مخلوق يرزقه. وهو رزاق، وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لأنه هو الخالق، والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق، وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لأن صفته في ذاته أنه يحيي، ومميت قبل أن يميت من يريد أن يميته؛ لأن الصفة موجودة في ذاته.
وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه، ومخرج الحي من الميت هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلِّقها. وله صفة- أيضاً- بعد أن يوجد المتعلق، فإن أراد الصفة قبل أن يوجد المتعلَّق جاء بالاسم: (فالق ومخرج). وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد، يقول: (يخرج)، (يخرج).
ويذيل الحق الآية: {ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].
و(ذا) اسم إشارة لما تقدم، وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وهو الله. والكاف في قوله: {ذلكم} لمن يخاطبهم وهم نحن، أما اللام من {ذلكم} فهي للبعد والميم للجمع. فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله، يقول: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
ولكنه هنا يخاطبنا فيقول: {ذلكم} إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى: الله، وفالق، ومخرج، والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن. فإذا كان الله بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن الإيمان به وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو أولى بأن يكون إلهاً معبوداً فكيف تصرفون عنه؟! وإلى من تصرفون؟! إلى من توجد فيه صفات أرقى من هذه الصفات؟!! لا يوجد من فيه صفات مثل هذه، ولا أرقى من هذه الصفات.
وإذا سمعت كلمة: (أنَّى) فافهم منها أنها تأتي للتعجيب، تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية انصرافهم عن الله وتوحيده مع وضوح الدلالات والبراهين.
ومرة يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28].
هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم: كيف تكفرون بالله فالله في ذاته يستحق ألا يكفر به، لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمدّ من عُدْم، ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا الأمر، وإليه نرجع جميعاً، فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا: {فأنىتؤفكون} أي فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون- مع الله- إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه الصفات له سبحانه وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في (أنّى) مثل قوله الحق: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
أي كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟
ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم: {أنى لَكِ هذا}
إذن فالتعجب ملازم لكلمة (أنّى) فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة للإيمان بالله واحداً قهاراً مريداً عالماً حكيماً نرجع إليه جميعاً، فقولوا لنا: كيف تكفرون بهذا الإله؟ وإلى من تذهبون إذا كان هذا الإله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئاً ادّعى أنه خلق أو رزق كنا نعذركم، لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق، والدعوة تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض.
{فأنى تُؤْفَكُونَ} وكلمة (أنّى تؤفكون) تعني كيف تُصرفون انصرافاً كذباً؛ لأن (الإفك). معناه الكذب المتعمّد.
ويقول الحق من بعد ذلك: {فَالِقُ الإصباح...}.


{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)}
وسبحانه يأتي بآية أخرى من الآيات المعجزة كما جاء بالآية الأولى في أنه هو الذي خلق لنا ما يقيم حياتنا.
{فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً}. ومعنى (فالق) أي جعل الشيء شقين، وهما نعمتان متقابلتان لا تكفي واحدة عن الأخرى، إذ لابد أن يوجد إصباح ويوجد الليل سكناً؛ لأن الإصباح هو زمان وضوح الأشياء أمام رؤية العين؛ لأننا نعلم أن الظلمة تجعل الإنسان يضطرب مع الإشياء، فإن كنت أقوى من هذه الأشياء حطمتها، وإن كانت أقوى منك حطمتك. إن السير في الظلمات التي لا يوجد فيها نور يهدي الإنسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الأشياء.
إننّا في الصباح نعمل ونسعى في الأرض، ونملأ الدنيا حركة. فإذا ما أصابنا الكد والتعب والنَّصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن لا بحركته فقط ولكن بسكون كل شيء حوله؛ لأنك إن كنت ساكناً ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك، ولذلك يقولون الآن: إن (الأشعة) التي يكتشفون بها أسرار ما في داخل جسد الإنسان تترك آثاراً.
إذن فالإشعاع الصادر عن الشمس يمنعه عنك الله ليلاً حتى يستريح الجسم من كل شيء، من كل حركة ناشئة فيه، ومن حركة وافدة عليه، وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة الصباح، وكلاهما تتمم الأخرى، ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدّم الظلمات على النور: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].
لأنك لا تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إلا إذا كنت نشيطاً ومرتاحاً أثناء الليل. فإن لم ترتح كنت مرهقاً ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار. إذن فالظلمة مقصودة في الوجود. ولذلك فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة الإنسان ليعمل نهارا ويستريح ليلاً، حتى لا يستأنف عمله في الصباح مكدوداً. ومن يزور ريف مصر هذه الأيام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال الليل مع أجهزة الترفيه، ويقومون إلى العمل في الصباح وهم مكدودون مرهقون.
ونقول: لنأخذ الحضارة من قمتها، ولا نأخذ الحضارة من أسفلها؛ فحين تذهب إلى أوروبا تجد الناس تخلد وتسكن ليلاً، ومن يسير في الشارع لا يسمع صوتاً ولا يجد من يخرج من بيته، ولا تسمع صوت ميكروفون في الشارع؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء، ويختلف الأمر في بلادنا: فالشوارع تمتلئ بالضجيج، والمريض لا يستطيع أن يرتاح، ومن يذاكر لا يجد الهدوء اللازم، ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جوّ العبادة، ونجد من يصف ذلك بأنه نقلة حضارية!!
ونقول: لتأخذ كل نعمة من نعم الله على قدر معطياتها في الوجود النافع لك، وحين يأتي الليل عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ولا تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك.
وسبحانه يقول: {فَالِقُ الإصباح} و{فَالِقُ}- كما قلنا- تعني شاقق، فهل الإصباح ينفلق؟. وبماذا؟. ونقول: إن {فَالِقُ} هي اسم فاعل، مثلما نقول: (قاتل الضربة) أي أن الضربة من يده قاتلة.
و{فَالِقُ الإصباح} معناها أن الصباح ينفلق عن الظلمة؛ لأن الظلمة متراكمة وحين يأتي الإصباح فكأنه فلق الظلمة وشقها ليخرج النور، وتعني {فَالِقُ الإصباح} أيضاً أن الفلق واقع على الإصباح فيأتي من بعده الظلام، وهذه من دقة الأداء البياني في القرآن؛ لأن الذي يتكلم إله.
وامرؤ القيس قال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل
والصبح والإصباح معناهما واحد.
هل الصبح من طلوع الشمس؟ أو الصبح من ظهور الضوء قبل أن تشرق الشمس؟ يأتي الإصباح أولا وهو النور الهادئ، ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لإنسان في عينيه يقومون بفك الأربطة التي تساعد الجرح على الالتئام، يفكونها بالتدريج حتى لا يخطف الضوء البصر فوراً، ومن رحمة الله أن خلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة واحدة. فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقاً هادئاً، ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح.
إذن الإصباح فالق مرة لأنه شقّ الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى؛ لأن الظلمة جاءت بعده. إذن فاسم الفاعل قد أدى مهمتين.. المهمة الأولى: فالق الإصباح. أي دخل بضوء الشمس. وإن قلنا: إصباحه فالق، أي ظلمة الليل الأوى انفلقت. إذن فالإصباح فالق مرة، ومفلوق مرة أخرى. وسبحانه حين يقول: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} يريد أن يعطي شقين اثنين؛ لأنه هو في ذاته فالق الإصباح. فيأتي بالاسم ليعطي لها صفة الثبوت، ثم جاء ب {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} صفة الحدوث بعد وجود المتعلّق. فإذا أراد الصفة اللازمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي بالاسم. وإن أراد الصفة بعد أن وجد المتعلّق يأتي بالفعل.
ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحق: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18].
الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة، وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير، يأتي بالفعل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63].
وكان القياس أن يقول: فأصبحت الأرض مخضرة؛ لأنه قال: (أنزل) لكنه يأتي بالتجدد الذي يحدث {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}.
ويتابع الحق: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة {حُسْبَاناً}، على وزن فُعْلان، وهذا ما يدل عادة على المبالغة مثلما تقول: فلان والعياذ بالله كفر كفراناً. ومثلما تدعو: غفر الله لك غفراناً. فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة فُعْلان. وجاء القرآن بكلمة (حسبان) في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {والشمس والقمر حُسْبَاناً}، وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
وما الفرق بين التعبيرين؟ (حسبان) هنا تعني أن تحسب الأشياء، فنحن نحسب السنة بدورة الشمس ب 365 يوماً وربع اليوم وهي تمر بالبروج فيها خلال هذه المدة، والقمر يبدأ بروجه كل شهر في ثمانية وعشرين يوماً وبعض اليوم، ونحن نحسب بالشمس اليوم، ونحسب بها العام، ولكنا نحسب الشهر بالقمر، وأنت لا تقدر أن تحسب الشهر بالشمس، بل تحسب الشهر بالقمر لأنه يظهر صغيراً ثم بكبر ويكبر ويكبر. ولذلك يثبت رمضان عندنا بالقمر لا بالشمس. واليوم نثبته بالشمس.
وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر ويعملان في حسابنا للأيام والشهور، والاثنان حسبان: الشمس لها حساب، والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة (حسبان) تفهم أن الشمس والقمر، كليهما مخلوق ليحسب به شيء آخر؛ لأنهما خلقتا بحسبان، أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق، لأن الشمس مخلوقة بحساب، وكذلك القمر.
وتعال إلى الساعة التي نستعملها، ألا يوجد بها عقرب للساعات، وآخر للدقائق، وثالث للثواني؟. وهذا أقل ما قدرنا عليه، وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى أجزاء مثلما عملنا في المساحات؛ فهناك المتر، والسنتيمتر، والملليمتر، ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر. إذن، كلما نرتقي في التقدم العلمي نحسب الحساب الأدق. ولم تكن الشمس والقمر حساباً لنا نحسب بهما الأشياء إلا إذا كانت مخلوقة بحساب.
إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك لا تدرك حركة عقرب الدقائق، وكذلك لا تدرك حكة عقرب الساعات، وكل من العقارب الثلاثة يدور (بزمبلك) وترس معين. إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس، ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب، والثانية محسوبة على الدقيقة، والدقيقة محسوبة على الساعة.
وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيداً. وهكذا لا نعتبر الساعة معيارا لحساب أزماننا إلا أنها في ذاتها خلقت بحساب. والحق سبحانه يقول: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي لنحسب بهما لأنهما مخلوقتان بحسبان. أي بحساب دقيق، ولماذا لم يقل الحق حساباً وجاء بحسبان هنا، وحسبان في آية سورة الرحمن؟. ذلك لأن الأمر يقتضي مبالغة في الدقة. فهذا ليس مجرد حساب، لكنه حسبان.
ويذيل الحق الآية بقوله: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم}، وكلمة (العزيز) تفيد الغلبة والقهر فلا يستطيع أحد أن يعلو عليه؛ فهذه الأجرام التي تراها أقوى منك ولا تتداولها يدك، إنّها تؤدي لك مهمة بدون أن تقرب منها؛ فأنت لا تقترب من الشمس لتضبطها، مثلما تفعل في الساعة التي اخترعها إنسان مثلك، والشمس لها قوة قد أمدها الله خالقها بها ولا شيء في صنعته ولا في خلقه يتأبّى عليه. فهذا هو تقدير العزيز العليم، وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا لنحسب عليها. فهو جل وعلا خالقها بتقدير عزيز لا يغلب، وهو عزيز يعلم علما مطلقا لا نهاية له ولا حدود. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ...}.


{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97)}
وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه، وهو العزيز العليم، إنه سبحانه يصف لنا مهمة النجوم فقال: {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر}، والنجوم هي الأجرام اللامعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر؛ ومن رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الأرض؛ والسير ليلا في الأرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون الأمن في الدنيا ولا يمكن أن يناموا بالليل. بل لابد أن يسهروا لحراستنا، كل ذلك أراده الله بتقدير عزيز حكيم عليم، ولذلك ترك لنا النجوم ليهتدي بها هؤلاء الذين يسهرون أو يضربون في الأرض أو يمشون في البحر بسفنهم، وهم يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم، ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم؛ يقول الواحد منهم للآخر: اجعل النجم الفلاني أمام عينيك، وسر فوق الحي الفلاني. واجعل النجم الفلاني عن يسارك وامش تجد كذا، أو اجعل النجم الفلاني خلفك وامش تجد كذا.
إذن لو طمّت الظلمة لمنّعت الحركة بالليل، وهي حركة قد يضّطر إليها الكائن الحي، فجعل الحق النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل.
وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للاهتداء في ظلمات البر والبحر؛ لأنه لو كان القصد منها أن نهتدي بها في ظلمات البر والبحر، لكانت كلها متساوية في الأحجام، لكنا نرى نجماً كبيراً، وآخر صغيراً، وقد يكون النجم الصغير أكبر في الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر، وعلى ذلك لا تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في حركة الإنسان براً وبحراً، فليست هذه هي كل الحكمة، هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أولا؛ لذلك يأتي الحق في أمر النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا ألا تحصر الحكمة في الهداية بها ليلاً براً وبحراً فيقول: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} فلم يقل سبحانه يهتدون في ظلمات البر والبحر. إذن- النجوم- لها مهمة أخرى، إنه جلت قدرته يقول: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76].
وكل يوم يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة، فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير، وها هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيداً لقول الحق: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
أي أنه سبحانه قد خلق عالماً كبيراً. وأنت أيها الإنسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي لا تستخدم فيه آلة إبصار، وأخذت منه بالنظر المعان الذي تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب، وغير ذلك من اقمار صناعية ولذلك يقول الحق سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وبعض العلماء يقول: إن كل إنسان يوجد في الوجود له نجم، وترتبط حياته بهذا النجم، وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الأرض، وهناك نجوم لامعة ندرك خفقانها، ونجوم أخرى غير لامعة وبعيدة عنا، ويقال إنها تخص أناساً لا يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة.
ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح: إنني خلقت لكم الأشياء مِمّا قَدَرْتم بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها، ولكن لا تقولوا هذه منتهى الحكمة، بل وراءها حِكَم أعلى، فسبحانه هو الحكيم القادر، إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم الله، ولكن عليك أن تعلم أن كمال الله غير متناه، ولا يزال في ملك الله ما لا نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي الله الأرض ومن عليها.
ويقول الحق سبحانه في تذييل الآية: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والآية هي الشيء العجيب، وتطلق على آيات كونية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37].
وتطلق كلمة (آية) على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة. إذن هناك آيات قرآنية، وآيات كونية، والآيات الكونية تعتبر مفسرة للآيات القرآنية؛ فتفصيل الآيات في الكون ما نراه من تعددها أشكالاً وألواناً وحكماً وغايات. وتفصيل الآيات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الذي لا يمكن أن يكون إلا لإله قادر حكيم يستحق أن يكون إلهاً موحَّداً، ويستحق أن يكون إلهاً معبوداً.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم...}.

27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34